الحج ...ركن الإسلام الخامس:
فريضة الحج من أفضل العبادات وأجل القربات ، شرعها سبحانه إتمامًا لدينه ، وشرع معها العمرة، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم إلى جانب فريضة الحج، في قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله }البقرة:196
دل الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة فأما الكتاب فقوله سبحانه {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } آل عمران:97 .
وأما السنة فقد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر رضي الله عنه : ( بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) متفق عليه.
ونقل الإجماع على الوجوب ابن المنذر و ابن قدامة وغيرهم .
وأما العمرة فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها، فمن قائل بأنها واجبة على من يجب عليه الحج لعدد من الأدلة منها حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " قلت يا رسول الله: على النساء جهاد؟ قال: ( نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة ) رواه أحمد .
ومن قائل بأنها ليست واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال:( لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل ) رواه الترمذي وغيره وقد تنازعوا في صحته .
كما وقع الخلاف أيضاً بينهم في وجوب الحج على المستطيع فوراً أم على التراخي، والأكثر على أنه يجب على الفور فلا يجوز للعبد تأخيره إذا كان مستطيعًا لأمر الله تعالى به في قوله : {وأتموا الحج والعمرة لله } (البقرة 196) ، وقوله: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } ( آل عمران 97) ، والأصل في الأوامر أن يلتزم بها المكلف فوراً .
شروط وجوب الحج:
لا يكون الحج واجبًا على المُكَلَّف إلا إذا توافرت فيه شروط معينه ، وتُسمى هذه الشروط "شروط الوجوب" فإذا توفرت هذه الشروط كان الحج واجبًا على المُكَلَّف، وإلا فلا يجب عليه، وهذه الشروط هي :
الإسلام :فغير المسلم لا يجب عليه الحج، ولو أتى به لم يصح منه لقوله تعالى : {وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } (التوبة 54) ، فالإسلام شرط لصحة كل عبادة ، وشرط لوجوبها .
التكليف:وهو أن يكون المسلم بالغًا عاقلاً، فالصغير لا يجب عليه الحج لأنه غير مكلف ، لكن لو حج صح منه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي رفعت إليه صبيًا ، وقالت: ألهذا حج ؟، قال : ( نعم، ولكِ أجر ) رواه مسلم ، لكن لا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام ، فيلزمه أن يحج مرة أخرى بعد بلوغه ؛ أما المجنون فلا يجب عليه الحج ولا يصح منه ، لأن الحج لا بد فيه من نية وقصد ، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون .
الحرية:فلا يجب الحج على العبد المملوك لأنه غير مستطيع ، لكن لو حج صح منه ، ويلزمه أن يحج حجة الإسلام بعد حريته .
الاستطاعة:والاستطاعة تكون في المال والبدن ، بأن يكونَ عنده مال يتمكن به من الحج ، ويكون أيضاً صحيح البدن غير عاجز عن أداء المناسك ، فإن كان المكلف غير قادرٍ لا ببدنه ولا بماله ففي هذه الحال لا يجب الحج عليه ، لعدم تحقق شرط الاستطاعة .
وإن كان قادرًا بماله غير قادر ببدنه فيلزمه أن ينيب من يحج عنه لحديث الخثعمية التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدْرَكت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ ، قال : (نعم) رواه البخاري .
ولا يلزم المُكَلَّف الاستدانة لأجل الحج ، كما لا يلزمه الحج ببذل غيره له ولا يصير مستطيعاً بذلك.
والقدرة المالية المعتبرة لوجوب الحج، هي ما يكفيه في ذهابه ، وإقامته ، ورجوعه ، وأن يكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ، والنفقات الواجبة عليه ، وفاضلاً عن الحوائج الأصلية التي يحتاجها من مطعم ومشرب وملبس ومسكن وما إليه ، فمن كان في ذمته دين حالٌّ لشخص ، فلا يلزمه الحج إلا بعد وفاء ما في ذمته ،وإن احتاج للنكاح وخاف على نفسه المشقة أو الوقوع في الحرام ، فله أن يقدم الزواج على الحج ، وإن لم يخف على نفسه قدَّم الحج .
وجود المحرم للمرأة:ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة مَحْرَم يسافر معها ، فمن لم تجد المَحْرم فالحج غير واجب عليها، وذلك لمنع الشرع لها من السفر من غير محرم ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم ) متفق عليه ، والمحرم زوج المرأة ، وكل ذكر تحرم عليه تحريماً مؤبداً بقرابة أو رضاع أو مصاهرة .
وقد اختلف العلماء في اشتراط المَحْرَم للمرأة في الحج على الأقوال الآتية:
القول الأول: يشترط وجود المَحْرَم أو الزوج لوجوب الحج على المرأة وهو قول الحنفية والحنابلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي مَحْرَم) رواه الشيخان ، ولهما أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي مَحْرَم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك)، وذلك لأن المرأة لا تقدر على الصعود والنزول بنفسها، فتحتاج إلى من يساعدها في الركوب والنزول وغير ذلك مما تحتاجه، ولا يتأتّى ذلك إلا مع الزوج أو المَحْرَم.
القول الثاني: لا يشترط لوجوب الحج وجود المحرم أو الزوج وهو قول الشافعية، بل يكفي وجود النسوة الثِقات، حتى لو فُرض وجود الزوج والمحرم القادرين على السفر معها، وهذا هو المشهور من المذهب، لأن الرفقة تقطع الأطماع فيهن، ولأنه سفر واجب لا يشترط له المحرم، كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار، وكالسفر لحضور مجالس الحاكم.
القول الثالث: قول المالكية فقد ذهبوا إلى وجوب وجود الزوج أو المحرم، فإن لم يوجدا، أو وُجدا لكن امتنعا أو عجزا عن مرافقتها، فرفقة مأمونة، والمعتمد صحة ذلك برفقة الرجال المأمونين أو النساء المأمونات، والأحْرى أن تكون من الجنسين معاً، على أن تكون المرأة مأمونة في نفسها..
وذهب ابن تيمية إلى جواز سفر المرأة بحج الفريضة بدون مَحْرَم - إن عُدِم - إذا أمنت على نفسها.
وليُعلم أن هذا الخلاف الذي ذكرناه هو في حج الفريضة دون حج النافلة، والراجح - والله أعلم - جواز سفر المرأة للحج مع رفقة مأمونة عند أمن الفتنة، وأمن الفتنة يُحدده الزمان والمكان ووسيلة السفر والرفقة فيه وحالة المرأة، فهو أمر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال.
من تيسير الله على عباده أن شرع لهم فريضة الحج على ثلاث صور ، رفقًا بهم، ودفعًا للحرج عنهم ، وهذه الصور هي ما يعرف عند أهل العلم بـ " أنواع النسك " ، فإذا وصل الحاج إلى الميقات في أشهر الحج - وهي شوال وذو القعدة والتسع الأول من ذي الحجة - وهو يريد الحج في عامه ذلك فإنه مخير بين ثلاثة أنواع من النسك وهي :
التمتع
وصفته أن يُحرم بالعمرة وحدها من الميقات في أشهر الحج قائلاً عند نية الدخول في الإحرام : " لبيك عمرة " ، ثم يقوم بأداء مناسك العمرة من طواف وسعي وحلق أو تقصير ليحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام ، ثم يبقى في مكة حلالاً إلى اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية ، فإذا كان يوم الثامن أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أعماله .
القِران
وصفته أن يحرم بالعمرة والحج معًا ، فيقول : " لبيك عمرة وحجًا " ، أو يُحرم بالعمرة من الميقات ثم يُدخل عليها الحج قبل أن يشرع في الطواف ، فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم ، وإن أراد أن يقدم سعي الحج فإنه يسعى بين الصفا والمروة ، وإلا أخره إلى ما بعد طواف الإفاضة ، ولا يحلق ولا يقصر ولا يحل من إحرامه ، بل يبقى محرماً إلى أن يحل منه يوم النحر ، والمتمتع والقارن - إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام - فإنه يلزمهما هدي شكراً لله أن يسر لهما نسكين في سفر واحد .
الإفراد
وصورته أن يحرم بالحج وحده ، فيقول : "لبيك حجاً" فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم وسعى للحج إن أراد ، وإلا أخره إلى ما بعد طواف الإفاضة كالقارن ، واستمر على إحرامه حتى يحلَّ منه يوم العيد ، وبهذا يتبين أن أعمال المفرد والقارن سواء ، إلا أن القارن عليه الهدي لحصول النسكين له ، بخلاف المفرد فلا يلزمه الهدي ، لأنه لم يحصل له إلا نسك واحد وهو الحج .
وقد أجمع أهل العلم - كما نقل ذلك ابن قدامة وغيره - على جواز الإحرام بأي نوع من هذه الأنساك الثلاثة ، لقول عائشة رضي الله عنها: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج"، إلا أنهم اختلفوا في أيها أفضل على ثلاثة أقوال والأحسن في هذا المقام التفصيل وأن ذلك يتنوع باختلاف حال الحاج - كما قال ابن تيمية رحمه الله - فإن كان يسافر للعمرة سفرة وللحج سفرة أخرى ، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويقيم بها حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة ، وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس ، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة ، ويقدم مكة في أشهر الحج ، فهذا إن ساق الهدى فالقِران في حقه أفضل ، وإنْ لم يسق الهدى ، فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل ليصير متمتعاً .
لقول ابن عباس رضي الله عنهما وقد سُئل عن متعةِ الحج ؟ فقال : « أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلّم- في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ( اجعلوا إهلالكم بالحج عُمرةً إلا من قَلّد الهدي فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ) رواه البخاري .
وللحاج إن خشي شيئاً يعوقه عن إتمام نسكه أن يشترط عند الإحرام فيقول : " إن حبسني حابس فمحِلِّي حيث حبستني " لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها : ( لعلك أردت الحج؟ قالت والله لا أجدني إلا وجعة ، فقال لها : حجي واشترطي، قُولي : اللهم محلي حيث حبستني ) رواه البخاري .
تنقسم أعمال الحج إلى أركان يجب الإتيان بها جميعاً ، ولا يصح الحج بترك شيء منها ، ولا يقوم غيرها مقامها ، وإلى واجبات يصح الحج بترك شيء منها ويُجْبَر المتروك بدم ، وإلى سنن ومستحبات يَكْمُل بها أجر الحاج وثوابه عند الله .
أركان الحج:
للحج أركان أربعة عند جمهور أهل العلم وهي :
1- الإحرام وهو نية الدخول في النسك لقول الرسول- صلى الله عليه وسلَّم- : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ) ، وله زمان محدد وهي أشهر الحج التي ورد ذكرها في قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } (البقرة: 197) ، ومكان محدد وهي المواقيت التي يُحْرِمُ الحاج منها .
2- الوقوف بعرفة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- : ( الحج عرفة ، من جاء ليلة جَمْع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) رواه أبوداود وغيره، والمقصود بجَمْع: المزدلفة، ويبتدئ وقته من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة ويمتد إلى طلوع فجر يوم النحر ، وقيل يبتدىء من طلوع فجر اليوم التاسع .
فمن حصل له في هذا الوقت وقوف بعرفة ولو لحظة واحدة فقد أدرك الوقوف، لحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المزدلفة حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل طيئ ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) رواه أبو داود وغيره .
وفي أي مكان وقف من عرفة أجزأه لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ( وقفت ههنا وعرفة كلها موقف ) أخرجه مسلم .
3- طواف الإفاضة لقوله سبحانه :{ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } (الحج: 29) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال - حين أُخبِرَ بأن صفية رضي الله عنها حاضت - ( أحابستنا هي ؟، فقالوا : يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، قال : فلتنفر إذاً ) متفق عليه ، مما يدل على أن هذا الطواف لا بد منه ، وأنه حابس لمن لم يأت به ، ووقته بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة ولا آخر لوقته عند الجمهور بل يبقى عليه ما دام حياً ، وإنما وقع الخلاف في وجوب الدم على من أخره عن أيام التشريق أو شهر ذي الحجة .
4- السعي بين الصفا والمروة لقوله- صلى الله عليه وسلم- : ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) رواه أحمد ولقول عائشة رضي الله عنها : " طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وطاف المسلمون- تعني بين الصفا والمروة - فكانت سنة ، فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة "رواه مسلم .
وهذا السعي هو سعي الحج ، ووقته بالنسبة للمتمتع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة وطواف الإفاضة ، وأما القارن والمفرد فلهما السعي بعد طواف القدوم .
فهذه الأركان الأربعة : الإحرام ، والوقوف بعرفة ، وطواف الإفاضة ، والسعي بين الصفا والمروة لا يصح الحج بدونها ، ولا يجبر ترك شيء منها بدم ولا بغيره ، بل لا بد من فعله ، كما أن الترتيب في فعل هذه الأركان شرط لا بد منه لصحتها ؛ فيُشترط تقديم الإحرام عليها جميعاً ، وتقديم وقوف عرفة على طواف الإفاضة ، إضافة إلى الإتيان بالسعي بعد طواف صحيح عند جمهور أهل العلم .
وأما واجبات الحج التي يصح بدونها فهي :
1- يكون الإحرام من الميقات المعتبر شرعاً لقوله - صلى الله عليه وسلم- حين وقت المواقيت : ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة ) رواه البخاري .
2- الوقوف بعرفة إلى الغروب لمن وقف نهاراً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- وقف إلى الغروب وقال : ( لتأخذوا عني مناسككم ) .
3- المبيت بمزدلفة ليلة النحر واجب عند أكثر أهل العلم لأنه - صلى الله عليه وسلم- بات بها وقال : ( لتأخذ أمتي نسكها فإني لا أدري لعلي لا ألقاهم بعد عامي هذا ) رواه ابن ماجه وغيره ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم- أذن للضعفة بعد منتصف الليل فدل ذلك على وجوب المبيت بمزدلفة ، وقد أمر الله بذكره عند المشعر الحرام .
ويجوز الدفع إلى منى في آخر الليل للضعفة من النساء والصبيان ممن يشق عليهم زحام الناس ، وذلك ليرموا الجمرة قبل وصول الناس ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : "كنت فيمن قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى" متفق عليه ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم أفاضت" رواه أبو داود .
4- المبيت بمنى ليالي أيام التشريق لأنه - صلى الله عليه وسلم- بات بها وقال: ( لتأخذوا عني مناسككم ) ، ولأنه أذن لعمه العباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، ورخص أيضاً لرعاة الإبل في ترك المبيت مما دل على وجوب المبيت لغير عذر .
5- رمي الجمار: جمرة العقبة يوم العيد ، والجمرات الثلاث أيام التشريق، لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى قال : {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } (البقرة: 203) ، ورمي الجمار من ذكر الله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إنما جُعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) رواه أبوداود وغيره
6- الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقال : ( وليُقَصِّر ولَيْحِلل ) متفق عليه ، ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة .
7- طواف الوداع لأمره - صلى الله عليه وسلم- بذلك في قوله : ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) رواه مسلم ، وقول ابن عباس : " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض " .
وهذه الواجبات يصح الحج بترك شيء منها ويُجْبَر المتروك بدم (شاة أو سُبْع بدنة أو سبع بقرة ) تُذبح في مكة وتوزع على فقراء الحرم لقول ابن عباس رضي الله عنهما : " من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دماً " .
سنن الحج
وما عدا هذه الأركان والواجبات من أعمال الحج فسنن ومستحبات ، كالمبيت بمنى في اليوم الثامن ، وطواف القدوم ، والرمل في الثلاثة الأشواط الأولى ، والاضطباع فيه ، والاغتسال للإحرام ، ولبس إزار ورداء أبيضين نظيفين ، والتلبية من حين الإحرام بالحج إلى أن يرمي جمرة العقبة ، واستلام الحجر وتقبيله ، والإتيان بالأذكار والأدعية المأثورة ، وغير ذلك من السنن التي يستحب للحاج أن يفعلها ، وأن لا يفرط فيها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يلزمه شيء بتركها .
الهَدْي :هو ما يهدى من الأنعام إلى الحَرَم تقرباً إلى الله تعالى ، قال عز وجل : {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون }(الحج: 36) ، وقد أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مائة من الإبل .
وللهدي أحكام وشروط تتعلق به يذكرها أهل العلم في هذا الباب ينبغي أن يكون الحاج منها على بينة .
ينقسم الهَدْي إلى نوعين تطوع وواجب .
فهدي التطوع هو ما يقدمه العبد قربة إلى الله تعالى من غير إيجاب سابق ، فله أن يتقرب وأن يهدي ما شاء من النعم حتى ولو لم يكن محرماً ، وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم- غنماً مع أبي بكر رضي اللّه عنه عندما حج سنة تسع ، وأهدى في حجه مائة بدنة.
وأما الهدي الواجب فهو الذي يجب على العبد بسبب من الأسباب الموجبة للدم ، والدماء الواجبة في الحج أنواع :
- دم التمتع والقران: وهو الدم الواجب بسبب الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد قال جل وعلا : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } (البقرة: 196) وأُلحِق القارن قياساً على المتمتع فيجب عليهما ما استيسر من الهدي وأقله شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة ، والحكم في الآية السابقة على الترتيب فلا يجوز العدول عن الهدي إلى غيره إلا إذا عجز عنه ، كأن يعدمه أو يعدم ثمنه ، فينتقل حينئذ إلى الصيام فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله .
وما سبق خاص بمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام ، أما من كان من حاضري المسجد الحرام فلا هدي عليه .
- دم الفوات والإحصار:وهو الدم الواجب بسبب فوات الحج ، وذلك بأن يطلع فجر يوم النحر على المُحْرِم ولم يقف بعرفة ، وحينئذ فإنه يتحلل بعمرة فيطوف ، ويسعى ، ويحلق أو يقصر ، ويقضي الحج الفائت ، ويهدى هدياً يذبحه في قضائه .
ويجب الدم أيضاً بسبب الإحصار وهو طروء مانع يمنع المُحْرِم من إتمام نسكه بعد أن شرع فيه ، كمرض أو عدو أو غير ذلك من الموانع لقوله جل وعلا :{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } (البقرة: 196). فيجب عليه هدي يذبحه حيث أحصر ، فإن لم يجد الهدي ففي انتقاله إلى الصيام خلاف .
وينبغي أن يعلم أن الفوات خاص بفوات الوقوف بعرفة ، وأما الإحصار فهو عام فيمن أحصر عن أي ركن من الأركان ، أما من أحصر عن واجب فإنه لا يتحلل بل يبقى على إحرامه ، وفي لزوم الدم عليه خلاف ، والفوات أيضاً خاص بالحج فلا يتصور في العمرة فوات ، وأما الإحصار فهو عام في الحج والعمرة .
- دم ترك الواجب:وهو الدم الواجب لترك واجب من واجبات الحج كترك الإحرام من الميقات ، وعدم الجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة ، وترك المبيت بمزدلفة ومنى ، وترك طواف الواداع .
فالواجب فيه شاة ، وإن لم يجد ففي انتقاله إلى الصيام خلاف، فمنهم من قال يصوم عشرة أيام قياساً على دم التمتع ، ومنهم من لم يلزمه بالصوم لأن القياس مع الفارق .
- دم ارتكاب المحظور:وهو الدم الواجب بارتكاب محظور من محظورات الإحرام -غير الوطء وعقد النكاح وقتل الصيد - كالحلق ولبس المخيط والتطيب وتقليم الأظافر ، فالواجب فيه دم على التخيير ، وهي فدية الأذى المذكورة في قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسك } (البقرة: 196) ، فهو مخير بين أن يذبح شاة ، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، أو يصوم ثلاثة أيام .
- كفارة الوطء والاستمتاع:وهو الدم الواجب بالجماع ، فإذا جامع الرجل زوجته في الفرج قبل التحلل الأول فسد حجه ، ويجب عليه بدنة ، ويتم أعمال الحج ويقضيه من العام التالي ، وأما لو أنزل بمباشرة دون الفرج ، أو لمْسٍ بشهوة ، أو استمناءٍ فقد اختلفوا هل يجب عليه بدنة أو شاة كفدية الأذى ؟ وأما بالنسبة لفساد حجه فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يفسد بغير الوطء في الفرج .
وأما إن حصل الجماع بعد التحلل الأول فإن حجه لا يفسد وعليه ذبح شاة أو بدنة على خلاف بين العلماء ، والمرأة في وجوب الفدية مثل الرجل إذا كانت مطاوعة له .
- دم جزاء الصيد:وهو الدم الواجب بسبب قتل المحرم للصيد ، أو الإعانة على قتله بإشارة أو مناولة أو ما أشبه ذلك ، فيجب فيه دم المثل لما قتل يذبحه ويوزعه على فقراء الحرم لقوله تعالى : {ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة } (المائدة: 95) ، وله أن يقَوِّم المثل ويشتري بقيمته طعاماً يفرق على المساكين لكل مسكين نصف صاع ، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً لقوله تعالى في الآية السابقة : {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } (المائدة: 95)، فالواجب فيه إذاً على التخيير .
ويشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية ، وهو أن يكون من بهيمة الأنعام ( الإبل ، والبقر ، والغنم ) ، وأن يبلغ السن المعتبر شرعاً ، بأن يكون ثنياً من ( الإبل والبقر والمعز ) ، أو جذعاً من الضأن ، والثني من الإبل ما تم له خمس سنين ، ومن البقر ما تم له سنتان ، ومن الغنم ما تم له سنة ، والجذع من الضأن ما له ستة أشهر ، كما يشترط أن يكون سليماً من العيوب التي تمنع الإجزاء فلا تجزئ العوراء البين عورها ، ولا العرجاء البين عرجها ، ولا المريضة البين مرضها ، ولا العجفاء التي لا مخ فيها.
وأفضلها الإبل ، ثم البقر ، ثم الغنم ، وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة أو سُبْع بدنة ، أو سبع بقرة ، لقول جابر رضي اللّه عنه - فيما رواه مسلم - : " حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة " .
والأفضل ما توافرت فيه صفات التمام والكمال كالسمن ، وكثرة اللحم ، وجمال المنظر ، وغلاء الثمن لقوله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } (الحج: 32) قال ابن عباس رضي الله عنه : "تعظيمها : استسمانها ، واستعظامها ، واستحسانها". وكان عروة بن الزبير رضي الله عنه يقول لبنيه : " يا بني لا يهد أحدكم للّه تعالى من البدن شيئاً يستحي أن يهديه لكريمه ، فإن اللّه أكرمُ الكرماء، وأحق من اختير له " .
ويستحب كذلك إشعار الهدي وتقليده إظهاراً شعائر الله ، وإعلاماً للناس بأن هذه قرابين تساق إلى بيت الله الحرام ، ويتقرب بها إليه ، والإشعار هو : أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها ، ويجعل ذلك علامة على كونها هدياً فلا يُتعرَّضُ لها ، والتقليد هو : أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها ليُعرَف أنه هدي ، تقول عائشة رضي الله عنها : " لقد كنتُ أفتلُ قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، فيبعث هديه إلى الكعبة " رواه البخاري .
وإذا عين هديه بالقول أو الإشعار أو التقليد لم يجز بيعه ، ولا هبته ، لأنه بتعيينه خرج عن ملكه وصار حقاً لله تعالى .
والهدي- سواء أكان واجباً أم تطوُّعاً - لا يُذبح إلا في الحرم سوى نوعين :
الأول : ما وجب بفعل محظور غير قتل الصيد ، فيجوز ذبحه في الحرم ، وفي الموضع الذي وُجد سببه فيه .
الثاني : ما وجب بالإحصار فحيث أحصر .
وللمُهدي أن يذبح هديه في أي موضع من الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم: ( كل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر ) رواه أبو داود .
ووقت الذبح يبدأ من يوم النحر إذا مضى قدر فعل الصلاة بعد ارتفاع الشمس قدر رمح ، ويمتد إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق على الصحيح ، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة لقوله - صلى الله عليه وسلم- ( كل أيام التشريق ذبح ) رواه أحمد .
ويستحب له أن يتولى نحر هديه بنفسه وله أن ينيب غيره ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً فنحر ما بقي .
وله أن يأكل من هدي التطوع والمتعة والقران ، وأن يهدي ويتصدق بخلاف أنواع الهدي الأخرى.
لتحسين خدماتنا نتشرف بتقييمك لرحلتك معنا او زيارتك لنا من خلال هذا الاستبيان :
© 2023 agazattours.com